تكملت القصه حق قابيل وهابيل ـ لَئن بَسَطتَ إلَيّ يَدَكَ لَتقتُلَني ما أنا بِباسِطٍ يَديَ إليكَ لأِقتُلَك.. إنّي أخافُ اللهَ ربَّ العالَمين..
انتَ تَظلِمُني يا قابيلُ.. وإذا ما قَتَلتَني فسوفَ يكونُ مَصيرُك النارَ.
قابيلُ يُفكّرُ بطريقةٍ وحشيّة.. فما دام هو الأقوى فمِن حقِّه أن يُسيطرَ على أخيه.. أن يَستَعبِدَه.. أن يُسَخِّرَهُ كما يُسخِّرُ الحيواناتِ الأُخرى..
انصَرَفَ هابيلُ إلى عَمَلِه يَرعى ماشِيَتَه.. نَسِيَ تهديداتِ أخيه.. كانَ يَرعى الماشيةَ في التِّلالِ والوِديانِ الخضراءِ الفَسيحةِ، يَتأمّلُ ما حوله بِحُبّ..
يملأ الإيمانُ قلبَه بالسلام.. ينظرُ إلى خِرافهِ وهي تَرعى في المُروج..
كلُّ شيء هادئ.. منَظرُ الشمسِ في الأصيلِ جميلٌ.. الأُفقُ الازرقُ الصافي.. وخَريرُ الجَدولِ وهو يَجري في الوادي الفَسيح.. والطيورُ البيضاءُ وهي تُحلّقُ في الفضاء الأزرق.. كلُّ شيءٍ جميل.. ومَحبوب..وهناك خَلفَ التِّلال كانَ قابيلُ يُسرِع نحوَ أرضِه.. كان عصبيّاً، وزادَ مِن عصبيّتهِ أنه كانَ جائعاً.. رأى مِن بعيدٍ أرنباً فركضَ فطارَدَه.. قَذَفهُ بحجرٍ، تَعثّرَ الأرنبُ.. انكسَرَت رِجلُه.. لَم يَعُد قادراً على الفِرارِ والنَّجاة..
أمسكَ قابيلُ به.. قَتَلَهُ.. وأكَلَه.. رمى بالباقي فوقَ الأرض..
هَبَطَت بعضُ النُّسورِ وراحَت تَتناولُ من الفَريسةِ.. قابيلُ فكّر في نفسِه.. لو كان ضَعيفاً.. لأكَلَتهُ النُّسور.. لماذا لا تأكُلني هذه الطيورُ المُخيفة.. لأنني قويّ.. القويُّ هو الذي يَستحقُّ الحياة.. وعلى الضُّعفاءِ أن يموتوا!
مرّةً أخرى فكّر قابيل بطريقةٍ وحشيّة.. إنّه لا يَعرِفُ الحقَّ والباطلَ، أن يكون الإنسان طيّباً أفضلُ من أن يكون شرّيراً. مرّة أخرى شَعَر بالحِقِد والحَسَدِ لأخيه.. تركَ أرضَهُ وحُقولَهُ ومضى نحو التِّلال..
راحَ ينظُر إلى أخيه هابيلَ في السُّفوحِ الخضراء.. والماشيةُ ترعى بسلام..
كانَ هابيلُ مُستَلقياً فوقَ العُشبِ الأخضر.. ربّما كانَ نائماً.. هكذا خَطَر في بالِ قابيلَ. اشتَعَل الحِقدُ في نفسِه أكثَر.. اشتَعلَ الغَدرُ في قلبِه.. انحنى ليَلتَقِط حَجَراً مُسَنَّناً.
ربّما فَكَّر أنّها فرصةٌ لِقَتلِ هابيل.. لِلتخلّصِ من أخيهِ إلى الأبد.
انحدَرَ قابيلُ من التلّ.. اقتَربَ من أخيه.. كانَ حَذِرا جدّاً مثلَ نَمرٍ شَرِس.. عَيناهُ تَبرقانِ بالجَريمةِ والغَدر..
كانَ هابيلُ غافياً.. شَعَر بالتّعبِ من كثرةِ ما دار في المراعي.. لهذا وَضَع رأسَه على صخرةٍ مَلساء وتَمدّدَ فوقَ العشُب ونام.. في وجههِ ابتسامةٌ وأمل..
كانَ نومُه هادئاً؛ لأنه يعرفُ أن هذا الوادي لا تَرتادُه الذِّئابُ ولا الخنازير، لهذا تَرَك ماشيتَه ترعى بسلام.
لم يَخطرْ في بالهِ أنّ هُناك مَخلوقاً آخرَ أكثرَ فَتْكاً من الذئاب..
قابيلُ شقيقُه الوحيدُ في هذه الدنيا الواسعة!
أصبحَ قابيلُ قريباً منه.. وَقَع ظِلَّهُ على وجهِ أخيهِ النائم.. فَتَحَ هابيلُ عَينَيهِ، ابتسَمَ لأخيه.. ولكنّ قابيلَ كانَ قد تَحوّل إلى وحش.. أصبَح مِثلَ الذئبِ، بل أكثرَ قَسوَة..
انقَضَّ على أخيه بالحَجَرِ وضَرَب جَبهتَه.. سالَت الدماءُ على عينَي هابيل.. فَقَدَ وَعيَه.. وكانَ قابيلُ يُواصِلُ الضَّرب.. إلى أن سَكَنَت حركةُ هابيلَ تماماً.
لَم يَعُد هابيلُ يتحرّك.. لَم يَعُد يَفتَحُ عَينَيه الواسعتين.. لم يَعُد يتَحدّث ولا يَبتسم.. إنه لا يَستطيعُ العَودةَ إلى كوخِه.. بَقِيَت ماشيتُه دونَ راعٍ.. سَتَتيه في هذه التلالِ والوِديانِ.. سَتفترسُها الذئاب..
كانَ قابيلُ يَنظرُ إلى أخيه.. وكانَت الدِّماءُ ما تزالُ تَنزِفُ من جبهِته.
تَوقّفَ نَزفُ الدم.. ظَهَرت في السماء نُسورٌ راحت تَحُوم..
حارَ قابيلُ ماذا يَفعل ؟.. حَمَلَ جَسدَ أخيهِ وراحَ يَمشي.. لا يَدري أين يَذهَبُ بهِ، كيف يُبعِده عن هذه النُّسورِ الجائعة ؟!
شَعَر بالتَّعب.. الشمسُ تَجنَحُ نحوَ الغُروب.. وضَعَ جسدَ أخيه فوق الأرض.. وجلسَ ليستريح..
فجأةً حَطّ غُرابٌ بالقربِ منه.. كانَ يَنعَبُ بشدّةٍ يصيحُ: غاق.. غاق.. غاق.. ربّما كان يقول له: ماذا فَعَلتَ بأخيكَ يا قابيل ؟! لماذا قَتَلتَ أخاك يا قابيل ؟!
راحَ قابيلُ يُراقبُ حركاتِ الغُراب.. الغُرابُ كانَ يَبحثُ في الأرض.. يَنبشُ التراب.. صَنَع فيها حفرةً صغيرة.. التقَطَ بمنقارهِ ثمرةً من الثمارِ الجافّة وألقاها في الحفرة.. راحَ يُهيلُ عليها التراب..
شَعَر قابيلُ بأنه اكتَشَف شيئاً مهمّاً.. عرَفَ كيف يُواري أخاه.. يَحفَظُه من النُّسور والذئاب.. أمسكَ بعظمٍ ربّما كان فَكَّ حمارٍ ميّتٍ أو حصانٍ أو حيوانٍ آخر.
راحَ يَحفرُ في الأرض.. كانَ يَتصبّبُ عَرَقاً، صَنَع حُفرةً مناسبة.. لا يُمكنُ للنسورِ ولا للحيوانات أن تَنبشَها. حَملَ جسدَ أخيه ووضعَهُ في الحفرةِ، وراح يُهيلُ عليه التراب..
بكى قابيلُ كثيراً.. بكى لأنّه قتَلَ أخاه.. وبكى لأنه كان عاجزاً عن فعلِ شيء..
الغرابُ هو الذي علّمه كيف يُواري سَوْءةَ أخيه..
إنّه مخلوقٌ جاهلٌ لا يعرفُ شيئاً.. يتعلّمُ من الغُراب! نَظَر قابيلُ إلى كفَّيه، نفَضَ منهما التراب. ماذا فعلتَ بنفسكَ يا قابيل ؟!
كيف طَوَّعَت لكَ نفسُك قَتْلَ أخيك.. ماذا كَسَبت ؟! ماذا حَصَدتَ من عملِك سوى النَّدم والألم ؟! غابت الشمس.. خَيَّم المساء.. وملأ الظلامُ الوادي، وعاد قابيلُ إلى كوخه..
مِن بعيدٍ وقبل أن يَصِل إلى الكوخِ رأى ناراً.. ناراً متأجّجة.. خافَ قابيلُ.. أصبحَ يخشى النار.. النارَ التي أخذَتْ قُربانَ أخيه ورَفَضَت قُربانَه.. أراد أن يَفِرّ.. ولكن إلى أين ؟
رأى أباهُ آدمَ ينتظرُ.. كانَ ينَتظرُ عودةَ ابنَيه.. عادَ قابيلُ وحيداً..
شَعَر آدم بالحُزنِ والقلقِ.. سألَ ابنَه:
ـ أينَ أخوك يا قابيل ؟
قال قابيلُ بعصبيّة:
ـ وهل أرسلتَني راعياً لابنِك ؟!
أدرك الأبُ أن شيئاً ما قد حَصَل.
قالَ لقابيل:
ـ أين فَقَدتَه ؟
قالَ قابيلُ:
ـ هناكَ في تلك التلال.
قال الأب:
ـ خُذْني إلى ذلك المكان.
قابيلُ أشار إلى المكان.. وراحَ يَمشي وأبوه يمشي وراءه.. سَمِعا من بعيدٍ ثُغاءَ الأغنامِ والماعزِ، ورأى آدمُ الماشيةَ مُبعثرَةً في الوادي.. صاح:
ـ هابيل.. أين أنتَ يا هابيل ؟!
لكنّ أحداً لم يُجِب.. تَحت ضوء القمرِ رأى آدمُ شيئاً يَلمَعُ فوقَ الصخور.. فوقَ الأرض.. شمَّ رائحةً غريبة.. أدرك آدمُ كلَّ شيء.. عرفَ أن قابيلَ قد قَتلَ أخاه، هتَفَ بغضب:
ـ اللعنةُ عليك يا قابيل.. لماذا قتلتَ أخاك ؟! لم يَخلُقْكَ اللهُ لِتُفسِدَ في الأرضِ وتَسفِكَ الدماء.. اللعنةُ عليك..
فَرّ قابيلُ.. تاهَ في الأرض.. راحَ يَعدو مثلَ المجنون.. ينامُ في المَغارات، يَركَعُ للنار.. يَسجُد لها. أصبَحَ يخافُ منها.. أصبَحَت حياتُه عذاباً وندماً.
وعادَ آدمُ إلى الكوخ حزيناً يبكي من أجل ابنهِ هابيل.. هابيل الطيّب التقيّ.. هابيل المظلوم..
بكى آدمُ أربعينَ يوماً.. وبَكَت حوّاءُ من أجل وَلَدَيها.. وأوحى الله إلى آدم أنه سَيَرزقُه وَلداً آخر.. ولداً طيّباً مثل هابيل.. ومَضَت تسعةُ أشهر.. وأنجَبَت حوّاءُ ولداً جَميلاً وجهُه يُضيء كالقمر..
فَرِحَ آدمُ.. ملأت البهجةُ قلبَه.. لقد عَوّضه الله عن هابيلَ بولدٍ مثلِه.. سبعةُ أيام وآدمُ يفكّر في اسمٍ لولده.. وفي اليومِ السابع قال لزوجته:
ـ نُسمّيه شيث.. هبةَ الله.. لأن الله قد أهداه لنا..
وتمضي الأيامُ والأعوام.. وكَبُر شيث، وأصبحَ آدمُ شيخاً كبيراً.. وأصبحت حوّاء إمرأةً عجوزاً..
وكان آدمُ راضياً.. لقد كَبرَ ابناؤه وأصبح له أحفادٌ وذرّية.. يَعملونَ ويَزرعونَ.. ويَبنونَ.. ويَعبُدونَ الله.. وهناك في مكانٍ ما يعيشُ قابيل.. هو الآخَرُ أصبحَ له ذرّيةٌ في الأرض.
وذاتَ يومٍ قال آدمُ لولده شيث:
ـ أشتَهي عِنَباً يا ولدي..
نَهضَ شيث وانطلَقَ إلى البساتينِ الواسعةِ حيث تَنبُتُ الكُروم.. اقتَطَفَ بعضَ العناقيدِ الناضجةِ وعادَ إلى أبيه.. ولكنّ آدمَ قد تُوفّي.. عادَ إلى الجنّة.. بعد أن عاشَ في الأرض ألفَ سنة..
انتَ تَظلِمُني يا قابيلُ.. وإذا ما قَتَلتَني فسوفَ يكونُ مَصيرُك النارَ.
قابيلُ يُفكّرُ بطريقةٍ وحشيّة.. فما دام هو الأقوى فمِن حقِّه أن يُسيطرَ على أخيه.. أن يَستَعبِدَه.. أن يُسَخِّرَهُ كما يُسخِّرُ الحيواناتِ الأُخرى..
انصَرَفَ هابيلُ إلى عَمَلِه يَرعى ماشِيَتَه.. نَسِيَ تهديداتِ أخيه.. كانَ يَرعى الماشيةَ في التِّلالِ والوِديانِ الخضراءِ الفَسيحةِ، يَتأمّلُ ما حوله بِحُبّ..
يملأ الإيمانُ قلبَه بالسلام.. ينظرُ إلى خِرافهِ وهي تَرعى في المُروج..
كلُّ شيء هادئ.. منَظرُ الشمسِ في الأصيلِ جميلٌ.. الأُفقُ الازرقُ الصافي.. وخَريرُ الجَدولِ وهو يَجري في الوادي الفَسيح.. والطيورُ البيضاءُ وهي تُحلّقُ في الفضاء الأزرق.. كلُّ شيءٍ جميل.. ومَحبوب..وهناك خَلفَ التِّلال كانَ قابيلُ يُسرِع نحوَ أرضِه.. كان عصبيّاً، وزادَ مِن عصبيّتهِ أنه كانَ جائعاً.. رأى مِن بعيدٍ أرنباً فركضَ فطارَدَه.. قَذَفهُ بحجرٍ، تَعثّرَ الأرنبُ.. انكسَرَت رِجلُه.. لَم يَعُد قادراً على الفِرارِ والنَّجاة..
أمسكَ قابيلُ به.. قَتَلَهُ.. وأكَلَه.. رمى بالباقي فوقَ الأرض..
هَبَطَت بعضُ النُّسورِ وراحَت تَتناولُ من الفَريسةِ.. قابيلُ فكّر في نفسِه.. لو كان ضَعيفاً.. لأكَلَتهُ النُّسور.. لماذا لا تأكُلني هذه الطيورُ المُخيفة.. لأنني قويّ.. القويُّ هو الذي يَستحقُّ الحياة.. وعلى الضُّعفاءِ أن يموتوا!
مرّةً أخرى فكّر قابيل بطريقةٍ وحشيّة.. إنّه لا يَعرِفُ الحقَّ والباطلَ، أن يكون الإنسان طيّباً أفضلُ من أن يكون شرّيراً. مرّة أخرى شَعَر بالحِقِد والحَسَدِ لأخيه.. تركَ أرضَهُ وحُقولَهُ ومضى نحو التِّلال..
راحَ ينظُر إلى أخيه هابيلَ في السُّفوحِ الخضراء.. والماشيةُ ترعى بسلام..
كانَ هابيلُ مُستَلقياً فوقَ العُشبِ الأخضر.. ربّما كانَ نائماً.. هكذا خَطَر في بالِ قابيلَ. اشتَعَل الحِقدُ في نفسِه أكثَر.. اشتَعلَ الغَدرُ في قلبِه.. انحنى ليَلتَقِط حَجَراً مُسَنَّناً.
ربّما فَكَّر أنّها فرصةٌ لِقَتلِ هابيل.. لِلتخلّصِ من أخيهِ إلى الأبد.
انحدَرَ قابيلُ من التلّ.. اقتَربَ من أخيه.. كانَ حَذِرا جدّاً مثلَ نَمرٍ شَرِس.. عَيناهُ تَبرقانِ بالجَريمةِ والغَدر..
كانَ هابيلُ غافياً.. شَعَر بالتّعبِ من كثرةِ ما دار في المراعي.. لهذا وَضَع رأسَه على صخرةٍ مَلساء وتَمدّدَ فوقَ العشُب ونام.. في وجههِ ابتسامةٌ وأمل..
كانَ نومُه هادئاً؛ لأنه يعرفُ أن هذا الوادي لا تَرتادُه الذِّئابُ ولا الخنازير، لهذا تَرَك ماشيتَه ترعى بسلام.
لم يَخطرْ في بالهِ أنّ هُناك مَخلوقاً آخرَ أكثرَ فَتْكاً من الذئاب..
قابيلُ شقيقُه الوحيدُ في هذه الدنيا الواسعة!
أصبحَ قابيلُ قريباً منه.. وَقَع ظِلَّهُ على وجهِ أخيهِ النائم.. فَتَحَ هابيلُ عَينَيهِ، ابتسَمَ لأخيه.. ولكنّ قابيلَ كانَ قد تَحوّل إلى وحش.. أصبَح مِثلَ الذئبِ، بل أكثرَ قَسوَة..
انقَضَّ على أخيه بالحَجَرِ وضَرَب جَبهتَه.. سالَت الدماءُ على عينَي هابيل.. فَقَدَ وَعيَه.. وكانَ قابيلُ يُواصِلُ الضَّرب.. إلى أن سَكَنَت حركةُ هابيلَ تماماً.
لَم يَعُد هابيلُ يتحرّك.. لَم يَعُد يَفتَحُ عَينَيه الواسعتين.. لم يَعُد يتَحدّث ولا يَبتسم.. إنه لا يَستطيعُ العَودةَ إلى كوخِه.. بَقِيَت ماشيتُه دونَ راعٍ.. سَتَتيه في هذه التلالِ والوِديانِ.. سَتفترسُها الذئاب..
كانَ قابيلُ يَنظرُ إلى أخيه.. وكانَت الدِّماءُ ما تزالُ تَنزِفُ من جبهِته.
تَوقّفَ نَزفُ الدم.. ظَهَرت في السماء نُسورٌ راحت تَحُوم..
حارَ قابيلُ ماذا يَفعل ؟.. حَمَلَ جَسدَ أخيهِ وراحَ يَمشي.. لا يَدري أين يَذهَبُ بهِ، كيف يُبعِده عن هذه النُّسورِ الجائعة ؟!
شَعَر بالتَّعب.. الشمسُ تَجنَحُ نحوَ الغُروب.. وضَعَ جسدَ أخيه فوق الأرض.. وجلسَ ليستريح..
فجأةً حَطّ غُرابٌ بالقربِ منه.. كانَ يَنعَبُ بشدّةٍ يصيحُ: غاق.. غاق.. غاق.. ربّما كان يقول له: ماذا فَعَلتَ بأخيكَ يا قابيل ؟! لماذا قَتَلتَ أخاك يا قابيل ؟!
راحَ قابيلُ يُراقبُ حركاتِ الغُراب.. الغُرابُ كانَ يَبحثُ في الأرض.. يَنبشُ التراب.. صَنَع فيها حفرةً صغيرة.. التقَطَ بمنقارهِ ثمرةً من الثمارِ الجافّة وألقاها في الحفرة.. راحَ يُهيلُ عليها التراب..
شَعَر قابيلُ بأنه اكتَشَف شيئاً مهمّاً.. عرَفَ كيف يُواري أخاه.. يَحفَظُه من النُّسور والذئاب.. أمسكَ بعظمٍ ربّما كان فَكَّ حمارٍ ميّتٍ أو حصانٍ أو حيوانٍ آخر.
راحَ يَحفرُ في الأرض.. كانَ يَتصبّبُ عَرَقاً، صَنَع حُفرةً مناسبة.. لا يُمكنُ للنسورِ ولا للحيوانات أن تَنبشَها. حَملَ جسدَ أخيه ووضعَهُ في الحفرةِ، وراح يُهيلُ عليه التراب..
بكى قابيلُ كثيراً.. بكى لأنّه قتَلَ أخاه.. وبكى لأنه كان عاجزاً عن فعلِ شيء..
الغرابُ هو الذي علّمه كيف يُواري سَوْءةَ أخيه..
إنّه مخلوقٌ جاهلٌ لا يعرفُ شيئاً.. يتعلّمُ من الغُراب! نَظَر قابيلُ إلى كفَّيه، نفَضَ منهما التراب. ماذا فعلتَ بنفسكَ يا قابيل ؟!
كيف طَوَّعَت لكَ نفسُك قَتْلَ أخيك.. ماذا كَسَبت ؟! ماذا حَصَدتَ من عملِك سوى النَّدم والألم ؟! غابت الشمس.. خَيَّم المساء.. وملأ الظلامُ الوادي، وعاد قابيلُ إلى كوخه..
مِن بعيدٍ وقبل أن يَصِل إلى الكوخِ رأى ناراً.. ناراً متأجّجة.. خافَ قابيلُ.. أصبحَ يخشى النار.. النارَ التي أخذَتْ قُربانَ أخيه ورَفَضَت قُربانَه.. أراد أن يَفِرّ.. ولكن إلى أين ؟
رأى أباهُ آدمَ ينتظرُ.. كانَ ينَتظرُ عودةَ ابنَيه.. عادَ قابيلُ وحيداً..
شَعَر آدم بالحُزنِ والقلقِ.. سألَ ابنَه:
ـ أينَ أخوك يا قابيل ؟
قال قابيلُ بعصبيّة:
ـ وهل أرسلتَني راعياً لابنِك ؟!
أدرك الأبُ أن شيئاً ما قد حَصَل.
قالَ لقابيل:
ـ أين فَقَدتَه ؟
قالَ قابيلُ:
ـ هناكَ في تلك التلال.
قال الأب:
ـ خُذْني إلى ذلك المكان.
قابيلُ أشار إلى المكان.. وراحَ يَمشي وأبوه يمشي وراءه.. سَمِعا من بعيدٍ ثُغاءَ الأغنامِ والماعزِ، ورأى آدمُ الماشيةَ مُبعثرَةً في الوادي.. صاح:
ـ هابيل.. أين أنتَ يا هابيل ؟!
لكنّ أحداً لم يُجِب.. تَحت ضوء القمرِ رأى آدمُ شيئاً يَلمَعُ فوقَ الصخور.. فوقَ الأرض.. شمَّ رائحةً غريبة.. أدرك آدمُ كلَّ شيء.. عرفَ أن قابيلَ قد قَتلَ أخاه، هتَفَ بغضب:
ـ اللعنةُ عليك يا قابيل.. لماذا قتلتَ أخاك ؟! لم يَخلُقْكَ اللهُ لِتُفسِدَ في الأرضِ وتَسفِكَ الدماء.. اللعنةُ عليك..
فَرّ قابيلُ.. تاهَ في الأرض.. راحَ يَعدو مثلَ المجنون.. ينامُ في المَغارات، يَركَعُ للنار.. يَسجُد لها. أصبَحَ يخافُ منها.. أصبَحَت حياتُه عذاباً وندماً.
وعادَ آدمُ إلى الكوخ حزيناً يبكي من أجل ابنهِ هابيل.. هابيل الطيّب التقيّ.. هابيل المظلوم..
بكى آدمُ أربعينَ يوماً.. وبَكَت حوّاءُ من أجل وَلَدَيها.. وأوحى الله إلى آدم أنه سَيَرزقُه وَلداً آخر.. ولداً طيّباً مثل هابيل.. ومَضَت تسعةُ أشهر.. وأنجَبَت حوّاءُ ولداً جَميلاً وجهُه يُضيء كالقمر..
فَرِحَ آدمُ.. ملأت البهجةُ قلبَه.. لقد عَوّضه الله عن هابيلَ بولدٍ مثلِه.. سبعةُ أيام وآدمُ يفكّر في اسمٍ لولده.. وفي اليومِ السابع قال لزوجته:
ـ نُسمّيه شيث.. هبةَ الله.. لأن الله قد أهداه لنا..
وتمضي الأيامُ والأعوام.. وكَبُر شيث، وأصبحَ آدمُ شيخاً كبيراً.. وأصبحت حوّاء إمرأةً عجوزاً..
وكان آدمُ راضياً.. لقد كَبرَ ابناؤه وأصبح له أحفادٌ وذرّية.. يَعملونَ ويَزرعونَ.. ويَبنونَ.. ويَعبُدونَ الله.. وهناك في مكانٍ ما يعيشُ قابيل.. هو الآخَرُ أصبحَ له ذرّيةٌ في الأرض.
وذاتَ يومٍ قال آدمُ لولده شيث:
ـ أشتَهي عِنَباً يا ولدي..
نَهضَ شيث وانطلَقَ إلى البساتينِ الواسعةِ حيث تَنبُتُ الكُروم.. اقتَطَفَ بعضَ العناقيدِ الناضجةِ وعادَ إلى أبيه.. ولكنّ آدمَ قد تُوفّي.. عادَ إلى الجنّة.. بعد أن عاشَ في الأرض ألفَ سنة..